تشترك الدول الأربع بانها قد مرت ولازالت بظروف استثنائية نتجت عن تغير أنظمتها او محاولات التغير العنيفة للأنظمة . وفي جميع الأحوال فأن الواقع الحالي يؤشر الى حاجة ملحة الى تبني خطوات جادة في عملية شاملة لتحقيق العدالة الانتقالية تتعامل مع الانتهاكات التي وقعت في الماضي بمهنية وحيادية  لتمنع استمرار وقوعها في الحاضر والمستقبل. ومفهوم الخطوات الجادة الذي نهدفه هو ان ينصرف  سلوك القائمين على منظومة العدالة الجنائية في هذه الدول الى تبني استراتيجية واضحة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة تعتمد إضافة الى النهج العقابي نهجاً وقائياً علاجياً يشجع على اتّباع الممارسات والإجراءات التي تقي من الدخول في الوضع المدمر المتمثل في الاعتماد على معلوماتٍ منتزَعةٍ تحت وطأة التعذيب.

ويشترط لتحقيق ما تقدم  من وجهة نظرنا ان تتبنى اية استراتيجية معتمدة مبادئ أساسية ثلاث  .

1-     الشرعية :-  وتتم من خلال تبني اطر قانونية فاعلة و متناغمة مع القواعد القانونية والاجرائية المعتمدة على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي تعتمد الفلسفة الوقائية العلاجية الى جانب الفلسفة العقابية في صياغتها .

2-     الشفافية :- بتبني سياسة واضحة في الكشف عن واقع وحجم الانتهاك يقابله تعزيز عمليات الفحص المنتظم والمسائلة في المؤسسات الإصلاحية من خلال الرقابة المستقلة وغير المستقلة  الوطنية والدولية . ناهيك عن رسم أدوار ضامنة لمناهضة التعذيب وكشفه لمحامي الدفاع والطبيب والاسرة .

3-     التمكين :- وتتلخص بتمكين وتنمية قدرات اللاعبين الاساسين في منظومة العدالة  ( القضاء , الادعاء العام , المحامون , الإدارات والكوادر السجنية , الجهات التحقيقية , الكوادر الطبية العدلية والصحية, مفتشي ومراقبي الحكومة و المجتمع المدني , أعضاء السلطة التشريعية , الاعلام) بمهارات التطبيق العملي للنهج الوقائي والعلاجي في مناهضة التعذيب والممارسات الفضلى الواجب اعتمادها في اطار مكافحته .

ان أولى خطوات الإصلاح في اية مرحلة انتقالية هو الاعتراف بوقوع الانتهاكات والاعلان عن إرادة سياسية رافضة لها وعازمة على منع تكرار وقوعها . يعقبها المباشرة برسم مسار واضح لخطوات المعالجة  تترجم فيه المبادئ الثلاث الى خطوات عملية أهمها :-

1-      الإدانة العلنية من قبل ممثلي السلطات الثلاث ( التشريعية , التنفيذية , القضائية ) لجميع أفعال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة وان تقترن تلك الادانات بتعهدات صريحة تعبر عن سعي جاد وحثيث الى حضرها .

2-     تبني التعديلات الدستورية والقانونية بالقدر الذي يؤمن الحظر المطلق للتعذيب وتأكيد الضمانات الأساسية في الدستور. يعقبها اجراء التعديلات الضرورية على القوانين العقابية أو إلغاء الجائرة منها مع الأخذ بالالتزامات الدولية المصادق عليها لضمان حظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بصورة فعالة. والسعي الى تعزيز هذه الالتزامات  بالتصديق على اتفاقيات جديدة كاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984 او بروتوكولها الملحق .

3-     مغادرة نهج الانكار واعتماد نهج المصارحة والحقيقة  والمسائلة في التعامل مع الانتهاكات التي وقعت  في الماضي او تلك التي ستقع  والتعامل المهني والاحترافي معها من خلال توثيقها ومسائلة مرتكبيها وانصاف ضحاياها .

4-     منع تجدد العدوى من خلال تبني سياسة التطهير للوظائف العامة من مرتكبي الانتهاكات وتنقية بيئة العدالة الجنائية من اية نفوذ لهم سواء في الوسط القضائي او التنفيذي او الرقابي .

5-     تنويع الرقابة على المؤسسات الإصلاحية ومرافق التوقيف الاحتياطي على الصعيد الوطني لتشمل مؤسسات مستقلة عن السلطة التنفيذية كالرقابة القضائية والبرلمانية او رقابة المؤسسات الوطنية ومناغمتها مع أنواع الرقابة المجتمعية لمنظمات المجتمع المدني والفعاليات الاجتماعية الأخرى . مع ضرورة التعاون البناء مع منظومة رقابة المنظمات الدولية التي تمثلها منظمات دولية متخصصة كاللجنة الدولية للصليب الأحمر , العفو الدولية , هيومن رايتس ووج وغيرها من المنظمات .

6-     تفعيل الضمانات القانونية والإجرائية الأساسية في أقرب وقت ممكن للمساعدة على منع التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة من خلال اعتماد اليات الإنذار المبكر لمناهضة التعذيب المدعومة  بنظام شكاوى فعال يرسم أدوار واضحة للمحتجز و المحامي، الطبيب، الأسرة في الكشف عن التعذيب ومناهضته.

7-     التعامل الإيجابي مع اليات مناهضة التعذيب الأممية من خلال التبادل البناء للمعلومات مع اليات عملها سواء التعاقدية  منها اوغير التعاقدية والتناغم مع إجراءاتها ومحدداتها  .

8-     الانفتاح على الاعلام وتنمية قدرات العاملين فيه بالقدر الذي يمكنهم من نقل قصص التعذيب بصورة فعالة واحترافية تساهم في إشاعة ثقافة الرفض للانتهاك والمنتهك وتعزز من ثقافة المناهضة والمكافحة للتعذيب والقضاء على ثقافة الإفلات من العقاب. وتشيع قدر اكبر من الشفافية لحقيقة ما يحصل في المؤسسات الإصلاحية ومرافق التوقيف الاحتياطي بما يسهم في  بناء ثقافة مجتمعية عامة مبنية على احترام القيم والمبادئ الإنسانية المنبثقة عن القانون الدولي لحقوق الانسان واتفاقيات مناهضة التعذيب والعنف المنظم. والدفاع عن حقوق الضحايا والمتضررين ومناصرتهم .

9-      خطط وبرامج تدريبية  مزمنة لكوادر منظومة العدالة الجنائية والمراقبين بما يمكنهم من امتلاك مهارات تخصصية تؤهلهم تنفيذ مهامهم بشكل احترافي يتناغم والالتزامات المقررة قانوناً في مواجهة الانتهاك ومحاربته .

10-  سياسات واضحة لأنصاف الضحايا يدعم تطبيقها بنية  مؤسسية بكوادر احترافية  تتولى مهمة تقديم الخدمة النفسية والاجتماعية والعلاج والتأهيل لضحايا التعذيب وعائلاتهم.

11- تبني ممارسات فضلى تعتمد في سياق مناهضة التعذيب حماية حقوق الانسان في اطار مكافحة الإرهاب .

ان اعتماد الدول أعلاه لما تقدم من إرشادات سيمكنها من تبني الية وطنية فاعلة في مناهضة التعذيب ومكافحته . مع الاخذ بنظر الاعتبار ان هذه الدول يختلف خط الشروع فيها على المستوى الدولي وان اشتركت في تلقيها لانتقادات المنظومة الدولية لسجلها في مناهضة التعذيب ومكافحته , فمنها من اقر الانضمام والمصادقة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية و للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة المسيئة او الحاطة بالكرامة كالعراق واليمن وليبيا فيما تخلفت سوريا عن التصديق على اتفاقية مناهضة التعذيب . كذلك الحال على المستوى الوطني وخط  الشروع في تبني الأطر القانونية الفعالة ففيما يتعلق تضمينها للدستور لنصوص حضر التعذيب وإقرار الضمانات الأساسية  او تبني قانون وطني لمناهضة التعذيب يتضمن تعريف واضح يتماشى مع الفقرة الأولى من الاتفاقية . فأنه وباستثناء العراق الذي أورد نصاً دستورياً يحضر التعذيب م 37 ج  فأن الدول الثلاث قد أخفقت في توفير هذه الضمانة الدستورية . وعلى صعيد القوانين الوطنية أيضا خلت منظومتها الوطنية من قانون لمناهضة التعذيب الا من مشروع قانون تقدمت به وزارة العدل العراقية الى مجلس الدولة وهو الجهة المخولة في العراق بأعداد مشاريع القوانين وتدقيق الصياغة القانونية لها والذي وعلى الرغم من مباركتنا لهذه الخطوة الا ان مشروع القانون المقترح بصورته الحالية لا يلبي مستوى الطموح . ويعاب عليه ان الفلسفة العقابية  قد طغت على نصوصه فيما غاب عن نصوصه المنهج الوقائي  العلاجي في مناهضة التعذيب  . ومن وجهة نظر فنية فأننا نوصي بإعادة النظر فيه بشكل كامل وإعادة صياغته وتعزيزه بنصوص إضافية تؤمن وفاء اكبر بالالتزامات الدولية للعراق وتناغم سليم مع المنظومة القانونية الوطنية .

اما على صعيد تبني هذه الدول لمنظومات المراقبة وفعاليتها وتناغمها مع الاليات الإقليمية والدولية فانه وباستثناء العراق الذي يمتلك منظومة مراقبة متنوعة لسنا هنا في معرض الحكم على مهنيتها او احترافيتها ! تتفاوت فيها الاستقلالية من مستقلة الى شبه مستقلة وحكومية الى غير حكومية ورقابة منظمات المجتمع المدني ناهيك عن رقابة المؤسسة الوطنية . فأن الدول الثلاث لازالت في مراحل التخطيط او الاعداد لإطارها القانوني وبالإمكان الاستفادة من التجربة العراقية التي تتماثل ظروف انشائها مع الظروف التي يمر بها البلدان الثلاث لتكون تجربة مثالية تعتمد لرسم الخطط والبرامج المستقبلية  لاعتماد الممارسات التي ثبت نجاعتها وتجاوز ما اثبتت التجربة فشله مع الاخذ بنظر الاعتبار ان التجربة العراقية ذاتها لا زالت في مرحلة التطوير والمراقبة وهذا لا ينفي انها تجربة غنية لا يمكن التفريط بها سواء من حيث النجاحات او الإخفاقات.

تبدي منظمتنا منظمة مبادرون لحقوق الانسان والديمقراطية (IOHRD) ومن خلال خبراءها المعتمدون ممن لهم الخبرة والدراية العملية والعلمية  ببيئة القضاء والرقابة والتشريع استعدادها لتقديم الدعم والمشورة للمؤسسات المعنية في هذه الدول وبما يمكنها من تبني استراتيجية وطنية فاعلة لمناهضة التعذيب ومكافحته .

 

IOHRD

منظمة مبادرون لحقوق الانسان والديمقراطية

Toward an active strategy against torture for fragile countries

Facebook Comments Box