تعرضت المحكمة الاتحادية لموضوعة الهيئات المستقلة في أكثر من مناسبة أخرها القرار 43 /اتحادية /2019 الخاص بمفوضية حقوق الإنسان والصادر بتاريخ 11/ 7/2021 والقرار السابق رقم 88/اتحادية /2010 الخاص بالهيئات المستقلة وتحديد جهة الأشراف أو الارتباط أو المرجعية.
وبالعودة لدستور جمهورية العراق النافذ فقد افرد الدستور الفصل الرابع للهيئات المستقلة، وهو فرد مقصود بالتأكيد من قبل المشرع الدستوري في وصع فصل خاص بالهيئات المستقلة الى جانب ثلاث فصول نظمت أوضاع السلطات الثلاث في الدولة العراقية (التشريعية، التنفيذية، القضائية) وقدر تعلق الأمر بالهيئات المستقلة فقد عالجت المواد 102, 103 أوضاعها.
فنصت المادة (102) من الدستور (تُعد المفوضية العليا لحقوق الإنسان، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة النزاهة، هيئات مستقلة، تخضع لرقابة مجلس النواب، وتنظم أعمالها بقانون)
فيما نصت المادة (103): (أولاً – يعد كل من البنك المركزي العراقي، وديوان الرقابة المالية، وهيئة الإعلام والاتصالات، ودواوين الأوقاف، هيئات مستقلة مالياً وإدارياً، وينظم القانون عمل كل هيئةٍ منها.
ثانياً – يكون البنك المركزي العراقي مسؤولاً أمام مجلس النواب، ويرتبط ديوان الرقابة المالية، وهيئة الإعلام والاتصالات بمجلس النواب.
ثالثاً – ترتبط دواوين الأوقاف بمجلس الوزراء.)
واختصت المادة (107) من الدستور بمجلس الخدمة الاتحادي بالنص: (يؤسس مجلس يسمى “مجلس الخدمة العامة الاتحادي” يتولى تنظيم شؤون الوظيفة العامة الاتحادية، بما فيها التعيين والترقية، وينظم تكوينه واختصاصاته بقانون.) ولم يحدد الدستور مرجعيته لأي سلطة من السلطات الثلاث وإنما ترك ذلك للقانون الذي نصت المادة (2) منه (يؤسس مجلس يسمى (مجلس الخدمة العامة الاتحادي) يرتبط بمجلس النواب ويتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري ويمثله رئيسه أو من يخوله.)
ويقرر الدستور في المادة (108) حقاً للبرلمان بما له من سلطة تشريعية استحداث هيئات مستقلة أخرى حسب الحاجة والضرورة بقوانين دون أن يذكر في نص المادة أي قيد يتعلق بجهة الارتباط لتلك الهيئات أو مرجعيتها مسبقاً.
وبالعودة الى قرارات المحكمة الاتحادية وقرارها التفسيري بالعدد 88/اتحادية /2010 وما تبناه من مبدأ عام تضمنته حيثياته من:
” وجوب وجود مرجعية للهيئة المستقلة لاعتبار أن ذلك ما يقتضيه حسن سير العمل فيها وتامين الرقابة على أدائها لان الهيئات المستقلة ليست احدى السلطات الاتحادية المستقلة التي تتكون منها جمهورية العراق والمنصوص عليها حصراً في المادة 47 من الدستور ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) والتي تمارس اختصاصاتها ومهامها المرسومة بالدستور والقانون بصورة مستقلة وعلى أساس مبدأ الفصل بين السلطات وإنما هي أي الهيئات المستقلة جزء من احدى السلطات ومرجعيتها يلزم أن تحددها طبيعة المهام التي تقوم على وفق القانون الذي يحدد هذه المهام لذا يلزم أن تكون لها مرجعية ترتبط بها أو تشرف عليها ولا يمكن أن تسير بدون ذلك “.
والذي بناءاً عليه منح مجلس الوزراء سلطة الأشراف على هيئة النزاهة ومفوضية الانتخابات على الرغم من أن الدستور وفي الفصل الثاني الخاص بالسلطة التنفيذية بشقيها الحكومة ورئاسة الجمهورية نص في المادة (80) على الصلاحيات الحصرية لمجلس الوزراء ولم يكن من بينها ممارسة أي سلطة من قبل مجلس الوزراء على الهيئات المستقلة موضوع القرار.
وقد ناقش القرار تعريفات الارتباط والرقابة والأشراف لكنه لم يقر عدم دستورية ارتباط مفوضية حقوق الإنسان التي أقرها قانون المفوضية رقم 53 لسنة 2008 بمجلس النواب بل عزز مفهوم الارتباط ليشمل باقي الهيئات ووجوب وجود مرجعية لها كما تقدم تبيانه.
أصدرت المحكمة الاتحادية قراراً اليوم تعرضت فيه الى مفوضية حقوق الإنسان والطعون التي أوردها رئيس مجلس الوزراء على قانونها فأقرت عدم دستورية ثلاث مواد وهي:
- المادة 2/ أولا من قانون مفوضية حقوق الإنسان والمتعلقة بارتباط المفوضية بمجلس النواب، مع ملاحظة أن نص الحكم جاء خلافاً لما تضمنه التأسيس للقرار الذي انصب على عدم دستورية الارتباط بمجلس النواب وأقرت عدم ارتباطها باي سلطة، مع العرض أن الحكم بعدم الدستورية قد شمل كامل الفقرة الأولى من المادة 2 بخلاف ما يجب! فهل أن الإبطال يشمل أصل التأسيس للمفوضية وتمتعها بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي! فمن حيث الممارسات السابقة للمحكمة الاتحادية في قراراتها فأن للأخيرة أن تحكم بعدم دستورية جزء من النص أن وجدت مخالفة فيه كما حصل في النص الخاص سابق يتعلق بقانون المحكمة يتعلق بترشيح الأعضاء. وقناعتي إن خطأ قد وقع في الصياغة يستلزم التصحيح.
- المادة 12/ خامساً والخاصة باقتراح الموازنة المالية للمفوضية وتقديمها لمجلس النواب، وقد تضمن القرار بان هذه الصلاحية حصرية لمجلس الوزراء وان تقديم الموازنة هي الأخرى حصرية لمجلس الوزراء استناداً لأحكام المادة 62/أولا من الدستور وبالتالي أضحت موازنة المفوضية واجب الأعداد لها والتقديم من صلاحية وزارة المالية ومجلس الوزراء الاتحادي حصراً.
- المادة 16 / رابعاً والخاصة بحصانة الرئيس ونائبه وأعضاء المجلس خلال مدة عملهم في المفوضية , وقد أسست المحكمة حكمها على أساس تعارض الحصانة مع مبدأ المساواة أمام القانون ( المادة 14 من الدستور ) والمعاملة العادلة في الإجراءات القضائية والإدارية ( المادة 19/ ثالثاً من الدستور ) وان السلطة القضائية هي سلطة مستقلة وتتولاها المحاكم وان الرقابة والملاحقة القضائية تمثل جوهر استقلال القضاء الذي يرتبط بمبدأي سيادة القانون والفصل بين السلطان وانه ليس للسلطة التشريعية أن تحد من التقاضي وانتهى التأسيس الى إن تقدير الحصانة المطلقة لاي شخص وإخراجه من ولاية القضاء هو خرق واضح للدستور الا أن المحكمة تركت الباب مفتوحاً لتبني تعديل للقانون يقيد الملاحقات القضائية وقتياً أو أن يعهد الى جهة محايدة لإعطاء الأذن باتخاذ الإجراءات القضائية .
الأثار المترتبة على قرار المحكمة أعلاه تنوعت وكما يلي:
أولا: الأثار المترتبة على المفوضية كمؤسسة مستقلة وملاكها :
- ترتب على قرار الإلغاء للارتباط بمجلس النواب أن المؤسسة الوطنية ( المفوضية) باتت مستقلة عن أي من السلطات الثلاث دون مرجعية ترتبط بها , الا أن المفوضية وبسبب ارتباطها السابق بمجلس النواب العراق كانت كوادرها مستثناة من الخضوع لقانون سلم الرواتب لموظفي الدولة العراقية وبفك الارتباط تعود المفوضية بكوادرها لتخضع لقانون رواتب موظفي الدولة والقطاع العام رقم 22 لسنة 2008 النافذ وبالتالي حرمانهم من المخصصات الاستثنائية التي كانت تصرف باعتبارهم مرتبطين بمجلس النواب العراق المستثنى كوادره من حكم القانون أعلاه بموجب أحكام المادة 19 منه اعتباراً من تاريخ قرار المحكمة الاتحادية رقم 43 لسنة 2021 في 11/7/2021 . وان الخيارات القانونية المتاحة اليوم تنحصر بخيارين اثنين
أ – مفاتحة مجلس الوزراء لغرض شمول كوادر المفوضية بالمخصصات الاستثنائية التي تستلزم موافقة المجلس والتي ينص عليها قانون رواتب موظفي الدولة رقم 22 لسنة 2008
ب – التقدم بمشروع قانون يتضمن سلم رواتب خاص بالمفوضية يراعي خصوصية عمل كوادرها والذي سيخضع لذات الإجراءات المعتمدة في تشريع القوانين العراقية مع وجوب موافقة الحكومة لوجود جنبه مالية.
- اعتباراً من السنة المالية 2022 ستتولى وزارة المالية وملس الوزراء العراقي إعداد وتقديم موازنة المفوضية الى مجلس النواب العراقي.
- سيستمر الدور الرقابي لمجلس النواب ليمارس على أعمال المفوضية عملاً بأحكام المادة 61/ثامناً/ هـ من الدستور. مع العرض أن لا أثر مترتب لقرار المحكمة الاتحادية على وضع مجلس المفوضين الحالي المنتهي الولاية بتاريخ 20/07/2021 وليس لمجلس النواب العراقي تمديد عمله لانتفاء صفة العضوية بتاريخ 20/07/2021 وبالتالي استحالة إعادة تعينهم قانوناً لان قانون المفوضية قد رسم الية محددة لتسمية أعضاء المجلس ورئاسة المفوضية نصت عليها المادة 7 من قانونها وان الخيار القانوني الوحيد المتاح أمام مجلس النواب هو التعجيل بتسمية لجنة الخبراء تمهيدا لانتخاب المجلس الجديد ولمجلس النواب تبني خيار الإدارة المؤقتة خلال فترة الشغور.
- إن الهيئات المستقلة ومنها مفوضية حقوق الإنسان تعمل ضمن هيكلية الدولة العراقية، فهي تلتزم بقانون الخدمة المدنية وقانون الملاك وتخضع لقانون التقاعد الموحد وقانون انضباط موظفي الدولة، كما إنها تلتزم بتنفيذ تعليمات الموازنة الاتحادية وقانون الإدارة المالية رقم 6 لسنة 2019 وكذلك الالتزام بتعليمات تنفيذ العقود الحكومية، كما إن كل تصرفاتها المالية تخضع لمراجعة ديوان الرقابة المالية. وستستمر المفوضية بالخضوع لهذه القوانين بالإضافة الى قانون رواتب موظفي الدولة العراقية والقطاع العام رقم 22 لسنة 2008 للأسباب المتقدم ذكرها.
- قد يترتب على قرار المحكمة الجديد مراجعة لجنة الاعتماد الفرعية لتوصياتها بشأن منح الصنف أ الى المفوضية والتي من المزمع مناقشة القرار فيها هذا الشهر بسبب أن قرار المحكمة قد غير من الوضع القانوني للمفوضية وكوادرها وتعرض الى مسائل جوهرية منها حق اقتراح موازنتها والحصانة لمجلس المفوضين.
ثانياً: الأثار المترتبة على مجلس المفوضين
اعتباراً من تاريخ 11/07/2021 وهو تاريخ إبطال نص المادة 16/ رابعاً من قانون المفوضية النافذ فان مجلس المفوضين لم يعد يتمتع بالحصانة من الملاحقة القضائية عند أدائه لمهامه، ولمجلس النواب تبني تعديل لقانون المفوضية وفق ما نص عليه القرار بهدف تقييد الملاحقة كبديل عن الحصانة.
ثالثاً: الأثار المترتبة على الهيئات المستقلة الأخرى المنصوص عليها في المادة 102 من الدستور ( مفوضية الانتخابات وهيئة النزاهة)
بالنظر لكون القرار 43 / اتحادية / 2021 قد مثل عدولاً عن مبدأ سابق للمحكمة اعتمدته في القرار 88/ اتحادية /2010 فأن لكلا المؤسستين الطعن أمام المحكمة الاتحادية لاستحصال قرار مطابق لقرار المحكمة الخاص بمفوضية حقوق الإنسان حيث إن القرار قد تعرض بالتفسير لنص المادة 102 التي تشمل الهيئات المستقلة الثلاث وبالتالي ما يصح لمفوضية حقوق الإنسان ينسحب على الهيأة الأخرى
الخبير الدولي والناشط الحقوقي
سعد سلطان حسين
27/07/2021